الجلباب الصعيدي من أروقة الكرنك إلى شوارع الجنوب.. قصة زي مصري عمره 2700 عام
عندما تنظر إلى الجلباب الصعيدي، بفتحة صدره الطويلة وأكمامه الواسعة وغياب الياقة، قد تراه مجرد زي تقليدي يميز أهل الجنوب في مصر، لكنه في الحقيقة امتداد لعمق تاريخي يمتد آلاف السنين، حيث يعكس ملامح الهوية المصرية القديمة وروح البساطة والعملية التي صاحبت الإنسان المصري منذ بدايات الحضارة.
الجلباب الصعيدي هو رداء طويل فضفاض، يُفصل غالبًا من القطن الخالص، ويتميز بأنه بدون ياقة وله فتحة صدر طويلة نسبيًا قد تُغلق بأزرار بسيطة في الموديلات الحديثة، خاصة تلك التي يفضلها الشباب. أما أكمامه الواسعة وحجره المريح فيعكسان طبيعة الحياة في صعيد مصر، حيث الحر الشديد وحاجة الناس إلى ملابس تسمح بحرية الحركة وتناسب الأعمال اليومية في الحقول أو الأسواق.
لكن اللافت للنظر أن نفس هذا النمط من الملابس، الذي ارتبط وجدانياً بالصعيد، عُثر على ما يشبهه تمامًا في مقبرة أحد كهنة معبد الكرنك، ويُعرض اليوم في المتحف الوطني بالدنمارك، في قطعة أثرية مذهلة يبلغ عمرها نحو 2700 عام.
حين تقف أمام تلك القطعة الأثرية، وهي عبارة عن قميص كتان أبيض رقيق بلا ياقة، له فتحة صدر طويلة وأكمام واسعة، تكاد لا تصدق أن الزمن مرّ عليه كل هذه القرون. فالنسيج لا يزال متماسكًا، والتفاصيل محفوظة بشكل يدعو للدهشة، وكأن صاحبها سيعود ليرتديها في أي لحظة.
هذه الملابس تعود إلى كبير المنشدين في معبد الكرنك، أحد أبرز الشخصيات الكهنوتية في مصر القديمة، وكان مسؤولًا عن التراتيل المقدسة والأناشيد الدينية التي تُتلى في حضرة الإله آمون رع.
كان كبير المنشدين يرتدي ثوبًا أبيض من أرقى أنواع الكتان المصري، وهو لون الطهارة والنقاء، ويتزين بزخارف رمزية دقيقة تعكس القيمة الدينية والفنية في آن واحد. فاللباس لم يكن مجرد غطاء للجسد، بل رمزًا روحيًا ضمن الطقوس التي تُمارس في معبد الكرنك، الذي يعد أحد أعظم المعابد في التاريخ الإنساني، ومركزًا دينيًا وإداريًا واقتصاديًا ضخمًا في طيبة (الأقصر حاليًا).
القطعة النادرة جرى اكتشافها خلال بعثات التنقيب الأوروبية في القرن التاسع عشر داخل مقابر كهنة معبد الكرنك، قبل أن تُنقل إلى أوروبا ضمن ما كان يسمى حينها بـ«التبادل العلمي»، واليوم، تُعرض هذه التحفة في المتحف الوطني بالدنمارك، لتثير تساؤلات حول مصير الكثير من الكنوز المصرية القديمة المنتشرة في المتاحف العالمية، وحق المصريين في استعادتها.
إن تشابه ملابس الكهنة القدماء مع الجلباب الصعيدي الحديث ليس مصادفة، بل يعبّر عن استمرارية الهوية المصرية التي لم تنقطع رغم مرور آلاف السنين.
فالزي الصعيدي لا يزال يحافظ على الملامح الفرعونية في القصّة والنسيج والبساطة، وكأنه رسالة غير مكتوبة بأن روح مصر القديمة لا تزال تسكن في تفاصيل حياتنا اليومية.
الجلباب الصعيدي ليس مجرد قطعة قماش، بل وثيقة ثقافية حيّة تمتد جذورها إلى معابد الكرنك وأزمنة الفراعنة. وبين ما يُعرض اليوم في متاحف أوروبا، وما يُرتدى في شوارع الأقصر وسوهاج وأسوان، يبقى الخيط واحدًا: خيط الهوية المصرية الأصيلة التي لا تبلى مع الزمن.









