المجلة نيوز

الجلباب الصعيدي من أروقة الكرنك إلى شوارع الجنوب.. قصة زي مصري عمره 2700 عام

السبت 25 أكتوبر 2025 09:58 مـ 3 جمادى أول 1447 هـ
الجلباب الصعيدي
الجلباب الصعيدي

عندما تنظر إلى الجلباب الصعيدي، بفتحة صدره الطويلة وأكمامه الواسعة وغياب الياقة، قد تراه مجرد ‏زي تقليدي يميز أهل الجنوب في مصر، لكنه في الحقيقة امتداد لعمق تاريخي يمتد آلاف السنين، حيث ‏يعكس ملامح الهوية المصرية القديمة وروح البساطة والعملية التي صاحبت الإنسان المصري منذ ‏بدايات الحضارة.‏

الجلباب الصعيدي هو رداء طويل فضفاض، يُفصل غالبًا من القطن الخالص، ويتميز بأنه بدون ياقة وله ‏فتحة صدر طويلة نسبيًا قد تُغلق بأزرار بسيطة في الموديلات الحديثة، خاصة تلك التي يفضلها الشباب. ‏أما أكمامه الواسعة وحجره المريح فيعكسان طبيعة الحياة في صعيد مصر، حيث الحر الشديد وحاجة ‏الناس إلى ملابس تسمح بحرية الحركة وتناسب الأعمال اليومية في الحقول أو الأسواق.‏

لكن اللافت للنظر أن نفس هذا النمط من الملابس، الذي ارتبط وجدانياً بالصعيد، عُثر على ما يشبهه تمامًا ‏في مقبرة أحد كهنة معبد الكرنك، ويُعرض اليوم في المتحف الوطني بالدنمارك، في قطعة أثرية مذهلة ‏يبلغ عمرها نحو 2700 عام.‏

حين تقف أمام تلك القطعة الأثرية، وهي عبارة عن قميص كتان أبيض رقيق بلا ياقة، له فتحة صدر ‏طويلة وأكمام واسعة، تكاد لا تصدق أن الزمن مرّ عليه كل هذه القرون. فالنسيج لا يزال متماسكًا، ‏والتفاصيل محفوظة بشكل يدعو للدهشة، وكأن صاحبها سيعود ليرتديها في أي لحظة.‏

هذه الملابس تعود إلى كبير المنشدين في معبد الكرنك، أحد أبرز الشخصيات الكهنوتية في مصر ‏القديمة، وكان مسؤولًا عن التراتيل المقدسة والأناشيد الدينية التي تُتلى في حضرة الإله آمون رع.‏

كان كبير المنشدين يرتدي ثوبًا أبيض من أرقى أنواع الكتان المصري، وهو لون الطهارة والنقاء، ‏ويتزين بزخارف رمزية دقيقة تعكس القيمة الدينية والفنية في آن واحد. فاللباس لم يكن مجرد غطاء ‏للجسد، بل رمزًا روحيًا ضمن الطقوس التي تُمارس في معبد الكرنك، الذي يعد أحد أعظم المعابد في ‏التاريخ الإنساني، ومركزًا دينيًا وإداريًا واقتصاديًا ضخمًا في طيبة (الأقصر حاليًا).‏

القطعة النادرة جرى اكتشافها خلال بعثات التنقيب الأوروبية في القرن التاسع عشر داخل مقابر كهنة ‏معبد الكرنك، قبل أن تُنقل إلى أوروبا ضمن ما كان يسمى حينها بـ«التبادل العلمي»، واليوم، تُعرض هذه ‏التحفة في المتحف الوطني بالدنمارك، لتثير تساؤلات حول مصير الكثير من الكنوز المصرية القديمة ‏المنتشرة في المتاحف العالمية، وحق المصريين في استعادتها.‏

إن تشابه ملابس الكهنة القدماء مع الجلباب الصعيدي الحديث ليس مصادفة، بل يعبّر عن استمرارية ‏الهوية المصرية التي لم تنقطع رغم مرور آلاف السنين.‏
فالزي الصعيدي لا يزال يحافظ على الملامح الفرعونية في القصّة والنسيج والبساطة، وكأنه رسالة غير ‏مكتوبة بأن روح مصر القديمة لا تزال تسكن في تفاصيل حياتنا اليومية.‏

الجلباب الصعيدي ليس مجرد قطعة قماش، بل وثيقة ثقافية حيّة تمتد جذورها إلى معابد الكرنك وأزمنة ‏الفراعنة. وبين ما يُعرض اليوم في متاحف أوروبا، وما يُرتدى في شوارع الأقصر وسوهاج وأسوان، ‏يبقى الخيط واحدًا: خيط الهوية المصرية الأصيلة التي لا تبلى مع الزمن.‏