الأحد 23 نوفمبر 2025 02:51 مـ 2 جمادى آخر 1447 هـ
المجلة نيوز
رئيس مجلس الإدارةمحمد فوزي رئيس التحريرايمن أبو بكر
Embedded Image
×

صراع السياسة والمال.. استقلالية بنك إنجلترا

الأحد 26 أكتوبر 2025 01:08 صـ 4 جمادى أول 1447 هـ

تشهد الساحة السياسية والاقتصادية في المملكة المتحدة جدلاً متصاعدًا حول مستقبل استقلالية بنك إنجلترا المركزي، بعد تصريحات مثيرة أطلقها نايجل فراج، زعيم حزب "الإصلاح البريطاني" (Reform UK)، ألمح فيها إلى نيته استبدال محافظ البنك الحالي أندرو بيلي في حال توليه رئاسة الوزراء مستقبلاً.
هذه التصريحات، التي بدت في ظاهرها عابرة، أعادت فتح ملف حساس ظلّ لعقود خطًا أحمر في النظام المالي البريطاني: حدود التدخل السياسي في عمل المؤسسة النقدية الأهم في البلاد.

تلميح بالإقالة

في مقابلة أجراها فراج مع برنامج The Mishal Husain Show على شبكة بلومبرغ، قال مبتسمًا: "لقد قضى وقتًا طويلاً في المنصب، ربما حان الوقت لأن نجد شخصًا جديدًا."

ثم أضاف بنبرة دبلوماسية حسب "العين الإخبارية":"إنه رجل لطيف بما يكفي"، في إشارة إلى أنه لا يحمل عداءً شخصيًا لبيلي، لكنه يرى ضرورة لتغيير القيادة في البنك المركزي.

ورغم أن فراج لا يمتلك حاليًا أي سلطة تنفيذية تمكنه من اتخاذ مثل هذا القرار، فإن تصريحاته أثارت ردود فعل قوية في الأوساط الاقتصادية والسياسية على حد سواء، خاصة وأن فترة ولاية أندرو بيلي تمتد حتى مارس 2028، بينما لن تُجرى الانتخابات العامة المقبلة قبل أغسطس 2029 وفقًا للتقويم الدستوري البريطاني.

استقلال منذ عام 1997

تتمتع بنك إنجلترا باستقلال رسمي منذ عام 1997، حينما منحه وزير الخزانة حينها غوردون براون صلاحية تحديد السياسة النقدية وسعر الفائدة دون تدخل مباشر من الحكومة.
ومنذ ذلك الحين، شكّل استقلال البنك ركيزة أساسية في استقرار الاقتصاد البريطاني، واعتُبر خطوة إصلاحية عززت ثقة الأسواق والمستثمرين العالميين في النظام المالي للمملكة المتحدة.

لكن فراج يرى أن هذه الصيغة "جرّدت السياسيين من مسؤولية القرارات الاقتصادية التي تؤثر مباشرة على المواطنين"، داعيًا إلى إعادة النظر فيها ومنح الحكومة سلطة أكبر في توجيه السياسة النقدية، خاصة في ظل الأزمات الاقتصادية المتكررة التي تمر بها البلاد بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي.

نموذج ترامب في الخلفية

ووفقًا لتحليل نشرته صحيفة الغارديان البريطانية، فإن تصريحات فراج تعكس توجهًا مشابهًا لنهج الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي حاول مرارًا التأثير على قرارات مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي (البنك المركزي الأمريكي).
فقد طالب ترامب في أكثر من مناسبة بخفض أسعار الفائدة، وهاجم رئيس المجلس جيروم باول علنًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، واصفًا إياه بـ"الأحمق"، وهدّد بإقالته إن لم يلتزم بخطوطه الاقتصادية.

ويرى مراقبون أن فراج، المعروف بعلاقاته الوثيقة بترامب وبخطابه الشعبوي، يسعى إلى نقل هذا النموذج إلى بريطانيا، من خلال توسيع نطاق نفوذ السياسيين على البنك المركزي، وربطه بشكل أوثق بسياسات الحكومة المنتخبة.

لقاءات مباشرة ورسائل متبادلة

في الأسابيع الأخيرة، كشفت وسائل إعلام بريطانية عن أن فراج ونائب رئيس حزبه وعضو البرلمان ريتشارد تايس عقدا اجتماعًا مباشرًا مع محافظ البنك أندرو بيلي في المقر الرئيسي بشارع ثريدنيدل في لندن، بعد تبادل رسائل رسمية بين الجانبين.
وكان فراج قد وجّه دعوة للبنك المركزي إلى وقف بيع السندات الحكومية وخفض أسعار الفائدة التي تُدفع للبنوك البريطانية، وهي مطالب وصفها بعض الاقتصاديين بأنها "تدخل سياسي غير مسبوق".

من جانبه، دعا ريتشارد تايس إلى السماح لوزارة الخزانة بتعيين "ممثل أو اثنين" من الحكومة داخل لجنة السياسة النقدية التابعة للبنك، وهي الهيئة المستقلة التي تحدد أسعار الفائدة وتضع توجهات السياسة النقدية في البلاد.

خلفية فراج الاقتصادية

يُذكر أن نايجل فراج، الذي اشتهر كأحد أبرز الداعمين لحملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (Brexit)، بدأ مسيرته المهنية تاجرًا في السلع الأساسية قبل أن يتحول إلى السياسة.
وفي السنوات الأخيرة، اتجه إلى دعم القطاع المالي البديل، خصوصًا العملات الرقمية، حيث يعمل سفيرًا لإحدى العلامات التجارية العاملة في مجال الذهب والعملات المشفرة.

وقد وصف فراج محافظ البنك أندرو بيلي سابقًا بأنه "ديناصور" بسبب موقفه المتحفظ تجاه العملات الرقمية، قبل أن يبدى ارتياحه مؤخرًا لما اعتبره "تطورًا إيجابيًا" في موقف البنك من العملات المستقرة (Stablecoins)، وهي عملات رقمية ترتبط قيمتها عادة بعملات تقليدية مثل الدولار الأمريكي أو الجنيه الإسترليني.

وقال فراج خلال المقابلة: "على بنك إنجلترا، والحكومة البريطانية، والهيئات التنظيمية — أيًا كانت صيغتها — أن تدرك أن العالم تغيّر بسرعة هائلة، ومن لا يواكب هذا التغيير سيتخلّف عن الركب."

رد البنك ومخاوف المراقبين

وفي تعليق مقتضب عقب الاجتماع، قال متحدث باسم بنك إنجلترا إن اللقاء بين المحافظ فراج وتايس كان "مثمراً وبنّاءً"، دون الكشف عن تفاصيل إضافية.
لكن مراقبين حذروا من أن محاولات فراج المستمرة للتأثير على قرارات البنك تمثل بداية لصراع سياسي أوسع حول حدود استقلال المؤسسة النقدية، خصوصًا في وقت تواجه فيه بريطانيا تضخمًا مرتفعًا وضعفًا في النمو الاقتصادي.

ويرى خبراء الاقتصاد أن أي مساس باستقلالية البنك المركزي قد يؤدي إلى اهتزاز ثقة الأسواق الدولية في الاقتصاد البريطاني، ويزيد من مخاطر هروب رؤوس الأموال، في وقت تحتاج فيه البلاد إلى استقرار مالي أكثر من أي وقت مضى.

معركة طويلة الأمد

يعكس هذا الجدل المتصاعد صراعًا أعمق بين منطق السياسة ومنطق المال، بين الرغبة في إخضاع المؤسسات المستقلة للمساءلة الديمقراطية، وبين الحاجة إلى حماية السياسة النقدية من التقلبات السياسية قصيرة الأمد.
وفي حين يرى فراج أن "السلطة يجب أن تكون في يد من انتخبهم الشعب"، يؤكد الاقتصاديون أن استقلال البنك المركزي هو صمام الأمان الأخير ضد التضخم والفوضى المالية.

وبين هذين المنظورين، يبدو أن المعركة حول استقلال بنك إنجلترا لم تعد مجرد نقاش فني حول أسعار الفائدة، بل تحوّلت إلى اختبار جديد لتوازن القوى في النظام البريطاني بين الحكومة والمؤسسات المستقلة — صراع قد يرسم ملامح المرحلة الاقتصادية المقبلة للمملكة المتحدة.