المجلة نيوز

هارموني الروسي.. شبكة تحصين الغواصات النووية بالقطب الشمالي

الجمعة 24 أكتوبر 2025 12:51 صـ 2 جمادى أول 1447 هـ

في واحدة من أكثر القصص غموضًا في سباق التسلح بين موسكو والغرب، كشفت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، بالتعاون مع عدد من وكالات الأنباء الأوروبية، عن تفاصيل عملية روسية سرّية معقّدة استخدمت فيها موسكو شبكة شركات وهمية في أوروبا لشراء تكنولوجيا غربية متطورة، بهدف بناء نظام مراقبة تحت الماء يُعرف باسم «هارموني» (Harmony).
هذا النظام، الذي يوصف بأنه "درع الغواصات الروسية"، يعمل على تأمين أسطول موسكو النووي في القطب الشمالي، ويُعدّ أحد أخطر مشاريع المراقبة العسكرية في العصر الحديث.

مشروع سرّي تحت الجليد

وفقًا للوثائق والسجلات المالية التي حصلت عليها واشنطن بوست، فإن روسيا بدأت منذ سنوات تنفيذ خطة واسعة لإنشاء شبكة مراقبة غير مرئية تمتد عبر بحر بارنتس ومناطق أخرى من القطب الشمالي، حيث تعمل غواصاتها النووية الحاملة للصواريخ الباليستية العابرة للقارات.
الهدف من هذه الشبكة، بحسب التحقيق، هو تحصين "حصون الغواصات" الروسية ضد أي اختراق أو رصد من قبل القوات الأمريكية وحلف الناتو، خصوصًا في حال اندلاع نزاع نووي محتمل.

نظام «هارموني» حسب "العين الإخبارية" يعتمد على منظومة متكاملة من أجهزة الاستشعار المثبتة في قاع البحر، قادرة على رصد أي تحركات للغواصات الأجنبية في المياه الروسية أو المحيطة بها، ما يمنح موسكو قدرة غير مسبوقة على مراقبة أعماق المحيطات والتحكم في مسارات الغواصات الغربية.

تكنولوجيا غربية بأيدي روسية

التحقيق كشف أن النظام الروسي المتطور لم يكن وليد القدرات المحلية فقط، بل بُني اعتمادًا على معدات وتقنيات حصلت عليها روسيا سرًّا من شركات أمريكية وأوروبية.
فقد استخدمت موسكو شبكة معقدة من الشركات الوهمية لتجاوز العقوبات الغربية، والحصول على تكنولوجيا حساسة تشمل: أنظمة سونار عالية الدقة؛ طائرات مسيّرة تحت الماء قادرة على العمل على أعماق تصل إلى 3000 متر.

وكذا هوائيات متطورة مخصصة للاتصال تحت سطح الماء؛ سفن تجارية وبحثية مزيفة استخدمت كغطاء لنقل المعدات وتنفيذ التجارب الميدانية.

فيما تشير السجلات إلى أن جزءًا كبيرًا من هذه المعدات تم شراؤه من شركات في الولايات المتحدة، بريطانيا، ألمانيا، النرويج، السويد، وإيطاليا، بقيمة عشرات الملايين من الدولارات.

موستريلو الواجهة القبرصية للمخابرات الروسية

أحد المفاتيح الأساسية في هذه الشبكة كانت شركة تُدعى «موستريلو التجارية المحدودة»، تتخذ من قبرص مقرًا لها — وهي دولة عضو في الاتحاد الأوروبي — لكنها كانت في الواقع واجهة للمجمع الصناعي العسكري الروسي.

التحقيقات أظهرت أن الشركة القبرصية كانت تشتري المعدات الغربية باسمها، ثم تنقلها إلى روسيا عبر وسطاء أوروبيين لتجنب التدقيق الأمني.
وكانت هذه العمليات تُدار سرًّا من قبل جهة روسية تُعرف باسم «إدارة التقنيات المستقبلية»، وهي مؤسسة تعمل منذ سنوات بالتعاون مع أجهزة الأمن والاستخبارات الروسية.

وفي إحدى أبرز القضايا القضائية المرتبطة بالشبكة، أدانت محكمة ألمانية مواطنًا روسيًا يُدعى ألكسندر شنياكين بتهمة تنسيق عمليات شراء غير قانونية لصالح "موستريلو"، في انتهاك مباشر لقوانين التجارة الألمانية.
شُنيَاكين، وهو روسي من أصول قيرغيزية يقيم في ألمانيا، حُكم عليه بالسجن خمس سنوات بعد مداهمات نفذتها السلطات الألمانية العام الماضي، إثر بلاغ من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) كانت قد أرسلته إلى برلين عام 2021.

وعقب هذه المحاكمة، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات مباشرة على شركة "موستريلو" وعدة شركات أخرى مرتبطة بالحكومة والجيش الروسي.

مسارات مشبوهة

الوثائق التي تسربت من ملفات "موستريلو" كشفت أن الشحنات كانت تمر أولاً عبر الأراضي الألمانية، لتجنّب عمليات التفتيش الأمنية المشددة المفروضة على الصادرات إلى روسيا، ثم يتم إعادة توجيهها إلى موسكو بطرق ملتوية.
ورغم أن معظم الشركات الغربية المشاركة في هذه الصفقات ادعت عدم علمها بالجهة النهائية للمعدات، إلا أن بعض العقود احتوت على إشارات واضحة باللغة الروسية، ما يثير تساؤلات حول مدى التزام تلك الشركات بالتحقق من هوية عملائها الفعلية.

درع الغواصات النووية الروسية

الخبير الأمريكي برايان كلارك، وهو ضابط غواصات سابق ومدير مركز مفاهيم وتكنولوجيا الدفاع في معهد هدسون، أوضح أن نظام «هارموني» يمنح روسيا ميزة استراتيجية كبرى في أعماق البحار.
وقال كلارك إن النظام "يعزز قدرة روسيا على إدخال غواصاتها النووية إلى الموانئ وإخراجها منها دون أن يتم اكتشافها أو اعتراضها من قبل القوات الغربية"، مضيفًا أن ذلك "يحد من قدرة الولايات المتحدة على تتبع أو استهداف الغواصات الروسية في حال نشوب نزاع مسلح".

نجاح الاستخبارات الروسية

تُظهر القضية، وفق محللين أمنيين، مدى قدرة روسيا على التحايل على العقوبات الغربية واستغلال الثغرات القانونية في النظام التجاري الأوروبي، لتمويل مشاريعها العسكرية والتكنولوجية الحساسة.
كما تؤكد على استمرار حرب الظل التكنولوجية بين موسكو والغرب، حيث تتحول التقنيات المدنية إلى أدوات في سباق التسلح الخفي.

ويرى الخبراء أن نظام "هارموني" يمثل تطورًا نوعيًا في الدفاعات البحرية الروسية، ويعيد التوازن في المواجهة البحرية بين موسكو وواشنطن، التي كانت لسنوات تتفوق في مجال مراقبة الغواصات.

معركة لا تُرى تحت الجليد

بين طبقات الجليد في القطب الشمالي، تدور معركة خفية لا تُرى بالعين المجردة — معركة تكنولوجية وأمنية تهدد بإعادة تشكيل ميزان القوى في العالم.
فمشروع «هارموني» ليس مجرد شبكة مراقبة، بل رمز لصراع أعمق بين القوى الكبرى، حيث تتحول التكنولوجيا إلى سلاح، والشركات إلى واجهات، والمحيطات إلى ساحات حرب سرية.

وفي الوقت الذي تواصل فيه واشنطن وحلفاؤها تشديد العقوبات، يبدو أن موسكو وجدت طريقها إلى "التحصين غير المرئي" — درع إلكتروني يلفّ غواصاتها النووية في صمت، داخل أعماق المحيطات المظلمة.